Web Analytics
أخبار الشمال

قهوة نص نص

في الأسبوع الماضي، كنا توقفنا عند الوضع غير المريح لكلا طرفي المعادلة المرتبطة بحراك الريف، فمن جانب الدولة التي انحازت للخيار الأمني المفتقد لأي رؤية استراتيجية، فقد اكتشفت –ربما- عزلتها السياسية والحقوقية والشعبية (إذا لم تكتشفها بعد، فهذا يعني أنها محتاجة إلى طبيب عيون بشكل مستعجل)، ومن جانب الحراك، فرغم انتصاره الأخلاقي بسبب طابع المقاومة المدنية اللاعنفية الذي انتهجه –وما يزال- ، فهذا لا ينفي أنه استنزف من حيث موارده البشرية والتنظيمية (بمعناها الشرعي)، لقد كانت كلفة باهظة دفعتها منطقة الريف: أكثر من 500 معتقل، ثلاثة شهداء، عودة قوارب الموت، حصار أمني واقتصادي خانق للأنفاس. وكل هذه “الخسائر” والمعاناة قد توهم بانتصار المقاربة الأمنية لمن لا يفهم “إيتيقا” المقاومة المدنية، أما الحقيقة فخسارة الدولة الأمنية كانت أكبر، لأن سقوطها سقوط أخلاقي، وفشل تدبيري، تدبير يكشف غياب تفكير استباقي وتخطيط استراتيجي في التعامل مع أسئلة المجال وتحولات الديموغرافيا والقيم والفاعلين الاجتماعيين.

خالد البكاري

الأخطر هو تشييد ذاكرة ريفية جديدة مستقبلية، تُعيد تكرار سردية العلاقة المتوترة مع المركز والمخزن والسلطة، وهي سردية مغذية للمتخيل الجمعي، لا تنفصل عن باقي مقومات الشخصية الريفية في أبعادها الثقافية واللغوية والقيمية، وهذه الذاكرة قد تتم تعبئتها لطلب الاعتراف، وقد يتم توظيفها في التفاوض إذا ما توفرت شروط مصالحة حقيقية، ولكن إذا استمر الظلم والإقصاء وسوء الفهم، فقد تتحول هذه الذاكرة الجريحة لمعبئ على الثأر.

إن المصالحة المبنية على جبر الضرر لا تقبل الالتفاف وترحيل الأزمة للأجيال القادمة حين يتعلق الأمر بالعدالة المجالية، فإذا كان أمر المصالحة بين السلطة والمعارضة الحزبية قد يسهل تدبيره بالمفاوضات والتنازلات ولو كانت من طرف واحد كما حدث عندنا، وبالتالي، قد يتم التضحية بالحقيقة، فإن نهج هذا الأسلوب مع المناطق المتضررة يكون مغامرة بالمستقبل لصالح تحكم في الحاضر، ويكون الأمر أكثر خطورة حين يتعلق الأمر بمناطق لها خصوصياتها الثقافية والهوياتية والتاريخية التي تكسبها شخصية متفردة، ويشكل أفرادها رؤيتهم للعالم من موقع الخصوصية، فحتى في الديمقراطيات القوية تتصاعد النزعات الهوياتية لبعض المكونات الإثنية أو اللغوية خلال فترات الأزمة حين تكون جروح الماضي لمّا تندمل بعد، فما بالك ببلد مثل المغرب لم يحسم بعد رهانات: الوحدة الترابية، وتدبير السوق اللغوية، ودمقرطة الدولة والمجتمع، بمعنى دولة بدون بوصلة ثقافية وتنموية، دولة بدون توافقات كبرى تؤسس لمشروع مجتمعي جامع، وبالتالي فكل انتصار للحسم الأمني/ القضائي في تدبير العلاقة مع مجال مثل الريف هو مقامرة تهدد الوحدة الوطنية.

وإذا كان أي نظام سياسي يتوقف استمراره على التفكير الاستراتيجي، وهذا من المعلوم في السياسة بالضرورة، فإنه يصبح أعز ما يُطلب في الأنظمة الملكية التي تقع في المنطقة الوسطى بين الملكية المطلقة والملكية البرلمانية، إذ يفترض أن يحتفظ الجالس على العرش بأدوار استراتيجية مرتبطة بضمان استمرار الدولة وتأمين المرحلة الانتقالية.

الدولة في هذه المرحلة في حاجة إلى العقل الاستراتيجي أكثر من العقل الأمني المطبوع بالظرفي، الأمني عادة ينتشي بـ”الانتصارات” اللحظية، فكفاءته تُقاس بقدرته على الضبط والتهدئة والتحكم في الفضاء العمومي، العقل الأمني عقل محافظ بسبب الأدوار المنوطة به، لذا ففي الأنظمة الديمقراطية يكون القرار للاستراتيجيين، وللأمنيين أدوار تنفيذية يشتركون فيها مع مؤسسات أخرى.

العقل الاستراتيجي الموسوم بالجهد الجماعي، بما هو تشبيك للسوسيولوجي والاقتصادي والمستقبلي والسياسي والتاريخي، قد يقدم إجابات أفضل لكيفية التعاطي مع مأزق الريف (وغيره من الجهات التاريخية الكبرى)، فإذا كان جيل حراك الريف الحالي قد خرج للشارع بدافع اجتماعي، ولكن بخلفية تعبوية من مظلمة تاريخية ورث سرديتها شفهيا، فإن الأجيال القادمة سترث المظالم الحالية مسنودة بالتوثيق الرقمي، لا الشفهي. لذلك، يصبح مطلب إطلاق سراح المعتقلين ورفع حالة الحصار الأمني عن المنطقة مطلبا مستعجلا واستراتيجيا في الوقت نفسه، حتى لا نقضي على ما تبقى من ممكنات المصالحة التاريخية.

ما علاقة كل ما سبق بالقهوة نص نص؟ ما قاله الرميد لا يختلف عن العقل الأمني من حيث عدم انتباههما لتكلفة الزمن، فكلما بقينا في مرحلة القهوة نص نص التي طالت، مطمئنين لهذا الانخداع بالاستقرار الظرفي، سنظل أسرى ضبابية الاستعارة، وما كل الاستعارات نحيا بها، فمنها ما نضحك بها، ولكنه ضحك كالبكاء، مع الاعتذار لـ”جورج لايكوف” و”مارك جونسون”.

اظهر المزيد

Chamal Post

شمال بوست (Chamal Post | CP) موقع قانونيّ مسجّل تحت رقم 2017/06 جريدة بشعبة الحرّيّات العامّة بالنّيابة العامّة للمحكمة الابتدائيّة بطنجة بظهير شريف رقم 122.16.1 / قانون 88.13 المتعلّق بالصّحافة والنّشر 2013-2022

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى